اليوم الوطني لمحاربة الأمية: رهان التنمية وبناء الإنسان
تُعدّ الأمية واحدة من أبرز التحديات التي تواجه المجتمعات المعاصرة، إذ تشكل عائقًا حقيقيًا أمام التنمية الشاملة وبناء الإنسان الواعي القادر على الإسهام في تقدم بلاده. وفي هذا الإطار، يحتفي المغرب يوم 13 أكتوبر من كل سنة بـ اليوم الوطني لمحاربة الأمية، وهي مناسبة وطنية تهدف إلى تسليط الضوء على الجهود المبذولة من طرف الدولة والمجتمع المدني لمحو الأمية، وتحفيز الوعي الجماعي بأهمية التعليم والتعلم مدى الحياة.
أولاً: مفهوم الأمية وأبعادها:
الأمية لا تقتصر فقط على عدم القدرة على القراءة والكتابة، بل تتجاوز ذلك لتشمل الأمية الوظيفية، أي عدم القدرة على استعمال المعرفة المكتسبة في الحياة اليومية أو في العمل. فالأمي، بمعناه الواسع، هو كل شخص لا يمتلك المهارات الأساسية التي تمكنه من الاندماج الكامل في المجتمع، سواء في المجال الثقافي أو الاقتصادي أو التكنولوجي...
وتُعدّ الأمية ظاهرة متعددة الأبعاد، ترتبط بعوامل اقتصادية واجتماعية وثقافية، مثل الفقر، والهدر المدرسي، وضعف البنيات التحتية التعليمية في العالم القروي، وغياب الوعي بأهمية التعليم لدى بعض الأسر.
ثانياً: السياق التاريخي لاعتماد اليوم الوطني لمحاربة الأمية:
جاء تخصيص يوم وطني لمحاربة الأمية بالمغرب في إطار العناية الخاصة التي توليها المملكة المغربية للتربية والتعليم باعتبارهما ركيزتين أساسيتين لبناء مجتمع متوازن ومزدهر. فقد تم إقرار هذا اليوم بقرار رسمي ابتداءً من سنة 2007، ليكون محطة سنوية لتقييم الجهود المبذولة في مجال محو الأمية، وتكريم الفاعلين الذين يسهمون في هذا الورش الوطني الكبير.
ويأتي هذا اليوم أيضًا انسجامًا مع التوجيهات الملكية السامية التي تؤكد في أكثر من مناسبة على ضرورة القضاء على الأمية، خصوصًا في صفوف النساء وساكنة العالم القروي، باعتبار ذلك حقًا من حقوق المواطنة وشرطًا أساسيًا لتحقيق التنمية المستدامة.
ثالثاً: الجهود الوطنية لمحاربة الأمية:
1. الوكالة الوطنية لمحاربة الأمية:
تُعتبر الوكالة الوطنية لمحاربة الأمية، التي أُحدثت سنة 2011، من أهم المؤسسات المكلفة بتنسيق وتنفيذ برامج محاربة الأمية في المغرب، وتعمل الوكالة بتعاون مع قطاعات وزارية وجمعيات المجتمع المدني والقطاع الخاص على تطوير برامج تعليمية متنوعة تراعي خصوصيات الفئات المستهدفة.
2. البرامج والمبادرات:
من بين أهم البرامج التي تم اعتمادها:
- برنامج محو الأمية في المساجد: تحت إشراف وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ويستفيد منه سنويًا مئات الآلاف من النساء والرجال.
- برنامج محو الأمية في الوسط المهني: الذي يستهدف العمال والمهنيين في مقرات عملهم، لتقوية قدراتهم اللغوية والحسابية والمهنية.
- برنامج محو الأمية بواسطة التلفاز والإنترنت: الذي يوظف الوسائل الرقمية الحديثة في عملية التعلم، تماشياً مع التحول الرقمي العالمي.
3. الشراكات والتعاون الدولي:
انخرط المغرب أيضًا في عدة شراكات دولية مع منظمات كـ اليونسكو والإيسيسكو والألكسو، لتبادل الخبرات في مجال محو الأمية وتطوير استراتيجيات فعالة ترتكز على العدالة المجالية والمساواة بين الجنسين.
رابعاً: التحديات التي لا تزال قائمة:
رغم الجهود الكبيرة المبذولة، فإن محاربة الأمية ما تزال تواجه مجموعة من التحديات، من أبرزها:
- الاختلاف بين الوسط الحضري والقروي: حيث تبقى نسب الأمية أعلى في القرى والمناطق النائية بسبب ضعف البنيات التحتية وبعد المؤسسات التعليمية.
- الهيمنة الأنثوية على نسب الأمية: إذ تشكل النساء النسبة الأكبر من الأشخاص الأميين، مما يعكس الحاجة إلى برامج تراعي خصوصيتهن الاجتماعية والأسرية.
- ضعف الاستمرارية: فالكثير من المستفيدين من برامج محو الأمية لا يواصلون التعلم بعد انتهاء الدورات، مما يؤدي إلى عودة بعضهم إلى الأمية مجددًا.
- التحولات الرقمية: إذ أصبحت الأمية الرقمية تحديًا جديدًا، فحتى من يعرف القراءة والكتابة قد يجد نفسه عاجزًا عن استعمال التكنولوجيا الحديثة.
خامساً: الأمية والتنمية المستدامة:
لا يمكن تحقيق التنمية المستدامة دون القضاء على الأمية، لأن المتعلم هو الفاعل الحقيقي في كل مجالات الإنتاج والابتكار. فالتعليم يمكّن الأفراد من تحسين مستوى معيشتهم، ويُسهم في الحد من الفقر والبطالة، ويعزز المساواة بين الجنسين، ويقوي المشاركة في الحياة العامة.
كما أن محاربة الأمية تندرج ضمن الهدف الرابع من أهداف التنمية المستدامة الذي تبنته الأمم المتحدة، والرامي إلى ضمان تعليم جيد ومنصف وشامل للجميع، وتعزيز فرص التعلم مدى الحياة.
سادساً: البعد الاجتماعي والثقافي لمحاربة الأمية:
محاربة الأمية ليست مجرد عملية تعليمية تقنية، بل هي مشروع اجتماعي وثقافي يهدف إلى بناء مواطن فاعل ومنفتح. فحين يتعلم الإنسان القراءة والكتابة، يصبح أكثر قدرة على فهم حقوقه وواجباته، والمشاركة في القرارات التي تخصه، والتفاعل الإيجابي مع محيطه.
ومن هنا، فإن محاربة الأمية تساهم في ترسيخ قيم المواطنة والديمقراطية، وتعزيز روح المسؤولية والانتماء للوطن، كما تشجع على المساواة بين الجنسين من خلال تمكين النساء من اكتساب المعرفة التي تفتح أمامهن آفاقًا جديدة في الحياة الأسرية والمهنية.
سابعاً: رؤى مستقبلية:
من أجل تسريع وتيرة محاربة الأمية بالمغرب، من الضروري:
- اعتماد مناهج تعليمية مرنة ومبسطة تراعي حاجات المتعلمين ومستوياتهم.
- تطوير التعليم غير النظامي وتوسيعه ليشمل الفئات الشابة المنقطعة عن الدراسة.
- توظيف التكنولوجيا الرقمية في التعلم الذاتي والتكوين المستمر.
- تحفيز الجمعيات المحلية والفاعلين المدنيين على المساهمة في برامج محو الأمية.
- إدماج محاربة الأمية ضمن السياسات الترابية والبرامج التنموية الجهوية.
خاتمة:
إن الاحتفال باليوم الوطني لمحاربة الأمية في 13 أكتوبر من كل سنة ليس مجرد مناسبة رمزية، بل هو دعوة متجددة للتعبئة الجماعية من أجل مغرب خالٍ من الأمية. فالمعركة ضد الأمية ليست مسؤولية الحكومة وحدها، بل هي واجب وطني يشمل الجميع: الأسرة، المدرسة، المجتمع المدني، والقطاع الخاص.
فمحو الأمية هو محو للفقر والجهل والتهميش، وهو في الوقت ذاته بناء لإنسان جديد واعٍ بحقوقه، مؤمن بقدراته، ومشارك في نهضة وطنه. فالتنمية الحقيقية لا تتحقق إلا حين يصبح كل مواطن قارئًا ومتعلمًا ومساهمًا في صناعة مستقبل أفضل لوطنه.